جرائم إيطاليا في طرابلس الغرب
للاعلان

مُدَوَّنَةُ الْمُهَنْدِسِ نَبِيلَ دَخِيلَ الْحَاسِّيِّ تُرَحِّبُ بِضُيُوفِهَا الْكِرَامِ اهلآ وسهلآ بِكَمْ جميعآ اتمنى لَكُمْ قَضَاءُ وَقْتِ مُمْتِعٍ

جرائم إيطاليا في طرابلس الغرب

جرائم إيطاليا في طرابلس الغرب
بقلم: د. مصطفى الستيتي
في عام 1551 م تم ضمّ طرابلس الغرب إلى تُراب الدولة العثمانية من قبل البحار طورغُوط رَئيس، ويُطلق اسم طرابلس الغرب على الأراضي التي تكون دولة ليبيا الحاليّة. ومنذ حوالي عام 1700م تراجع إلى حدّ كبير نفوذ الدّولة العثمانية في أراضي طرابلس الغرب وأصبحت السلطة تتركز أكثر فأكثر بيد الدايات المحلّيين فأصبحوا يتحركون بشكل أكثر استقلالا عن الحكومة المركزية في اسطنبول، بل وشرعوا في اتخاذ قرارات غير محسوبة زعزعت نفوذ الدولة في هذه المنطقة. ومنذ عام 1900م دخلت الدولة العثمانية في مرحلة انهيار مُتسارع جرّأ عليها الكثير من الدّول الأوروبية، فبعد وضع فرنسا يدها على الجزائر سنة 1830م وتونس سنة 1881م أصبحت أعين إيطاليا مسلّطة على ليبيا معتبرة أنّ الوقت قد حان لأخذ نصيبها من الكعك.
وكعادة الاستعمار فإنّه لا يرضى أن يكشف عن وجه الحقيقي القَبيح منذ البداية، بل يبحث لنفسه عن مبرّرات وحجج برّاقة يخدع بها الأهالي ويروّج بها لنفسه في المحافل الدّولية، وهذا بالتّحديد ما فعله الإيطاليون وهم يعدّون عدّتهم لغزو الأراضي الليبية. والحجة الجاهزة بحق العرب والمسلمين هي إخراج هؤلاء “العرب المتوحّشين” من ظلام التّخلف والجهل وإدخالهم إلى عالم التحضّر والثّقافة والنّور. فلقد زعمت الحكومة الإيطالية أن رعاياها من التّجار في ليبيا يتعرّضون للإهانة والظلم وسوء المعاملة، ولابدّ من حمايتهم وتخليصهم مما هم فيه، ومن جانب آخر إنقاذ الأهالي من الجهل الذي يقبعون فيه وتنويرهم بنور الحضارة الغربيّة. بيد أنّ السبب الحقيقي غير المعلن من غزو إيطاليا لليبيا كان السّيطرة على المواد الخام في هذه البلاد، ولعب دور نشيط لها في هذه المنطقة الإستراتيجية من الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط.
بسبب الوضع الصّعب الذي كانت عليه الدّولة العثمانية في هذه الفترة، لم يكن بوسعها أن تركّز في هذه المناطق أساطيل حربية وقوات عسكرية كفيلة بحمايتها من الاعتداءات الأجنبية. فقد خرجت لتوّها من هزيمة قاصمة مع الرّوس، وفقدت الكثير من أراضيها في أفريقيا والبلقان وأصبحت العاصمة اسطنبول نفسُها مهدّدة بمخاطر جمة. ومن أجل احتلال ليبيا، اتفقت إيطاليا مع كل من انكلترا وفرنسا لكي لا تجد أيّة معارضة لها في تحقيق هذا الهدف. وبالرغم من كل المخاطر وبُعد المسافة بين اسطنبول وليبيا فإنّ السّلطان عبد الحميد الثاني اتّخذ جُملة من التّدابير العسكرية والسّياسية لمنع استيلاء الإيطاليين على ليبيا. ولم تتجرّأ على غزو ليبيا إلا بعد أن تمّت الإطاحة بالسّلطان عبد الحميد في عام 1909م.
وبعد عزل السلطان عبد الحميد من الحكم صعد إلى منصب الوزارة الأولى حقّي باشا، واتخذ قرارات عبثيّة و غير متوازنة الأمر الذي سهّل على الإيطاليين مهمّتهم، ومهّد لهم السّبيل نحو طرابلس وبنغازي. فقد عمد إلى نقل القوات الموجودة في ليبيا إلى اليمن وإعادة المعدّات العسكرية إلى اسطنبول رغم التحذيرات المتتالية بخطأ هذا الإجراء، وبتصرفه هذا جعل حقي باشا ليبيا مفتوحة تماما أمام العدوّ المتربص بها.
وهكذا أصبحت إيطاليا تتحرك بأكثر جرأة من ذي قبل، وبتاريخ 14 فبراير سنة 1910م شرعت في طلب امتيازات عسكريّة أكبر في طرابلس وبنغازي اعتمادا على الاتفاقيات التي عقدتها مع الدّول الأوروبية، رفض وزير الخارجية العثماني رفعت باشا هذا الطّلب، لكن أطماع إيطاليا لم تتوقف. وفي خطوة مفاجئة وغريبة أرسلت الحكومة الإيطالية إنذارا أخيرا إلى الدولة العثمانية تطلب منها إخلاء طرابلس وبنغازي من قواتها في خلال 24 ساعة. وجاء رد وزير الخارجية حقي باشا يوم 29 سبتمبر سنة 1911م كما يلي: “يُمكن منح إيطاليا بعض الامتيازات الاقتصاديّة والسياسيّة المحدودة في المنطقة بشرط الاعتراف بوحدة التراب العثماني”. بيد أن هذا الجواب لم يلب طموحات الإيطاليين، وفي اليوم نفسه أعلنت إيطاليا الحرب رسميا ضد الدولة العثمانية.
كانت إيطاليا تعتقد أن دخولها إلى ليبيا سوف يكون عبارة عن نزهة، ولن تجابه فيها بأية مقاومة تذكر. جهزت إيطاليا جيشا قوامه 36 ألف عسكري، وفي يوم 1 أكتوبر سنة 1911م قام الأسطول الإيطالي بإغلاق السّواحل الليبية، وبعد ذلك بثلاثة أيام نزلت أولى الوحدات العسكرية الإيطالية على الأراضي الليبية، ثم بعد يوم من ذلك نزل على التراب الليبي 1700 من القوات البحرية. وبعد 9 أيام وصلت القوات الإيطالية إلى وسط مدينة بنغازي. وتم احتلال طرابلس يوم 20 أكتوبر سنة 1911م غير أن القوات الإيطالية لم تتمكن من السيطرة الكاملة على المدينة.
بالرغم من الوضع القاسي فقد عمل وكيل والي طرابلس الغرب الميرلاي نشأت بك على تشكيل جبهة للمقاومة بما في يده من إمكانيات بسيطة. والقوات الوحيدة الموجودة في ليبيا كانت تلك التي سلحها السلطان عبد الحميد الثّاني من الأهالي الليبيين ، وخصوصا من السنوسيين والضباط العثمانيين الذي ظلوا في المدينة ولم يغادروها. وقد كان الدعم العسكري والمالي يصل سرا إلى الثوار في ليبيا من مصر عبر الطرق البرّية، ومن بين الذين تسللوا والتحقوا بالثوار مصطفى كمال باشا (أتاتورك)، وأنور باشا وفؤاد نوري وفتحي أوقيار. ومن أبرز من شارك في المقاومة ضد المحتل الإيطالي من الأهالي نجد عمر المختار، كما أن العالم التونسي صالح الشريف تمكن من الدخول إلى طرابلس الغرب وساهم بالتحريض وشحذ الهمم للتصدي للمحتل الإيطالي.
تمكن نشأت بك من تكوين جبهة مقاومة شرسة ضد الإيطاليين وأصبحت النزهة التي كان يحلم بها الإيطاليون مستنقعًا مخيفا. ففي 19 ديسمبر سنة 1911م وبينما كانت كتيبة من الجنود الإيطاليين في وضع دفاعي تعرضت لهجوم من قبل الثوار الليبيين فقضت عليها تماما، وهذه الحادثة مثلت نقطة تحول في الطريقة التي يتعامل بها الإيطاليون مع الأهالي، قد زاد التعذيب والتنكيل بالأطفال والنساء والشيوخ، وعمدت القوات الإيطالية إلى تطبيق سياسة النفي من أجل إفراغ البلاد من سكانها وإحلال الإيطاليين محلهم. وقد تحدث المؤرخ الإيطالي المعروف أنجلو ديل بُوكا في كتابه”طرابلس أرض الرعب الجميل” عن جرائم الاحتلال الإيطالي لليبيا والذي اعتمد في كتابته على مذكرات مسؤول ليبي في تلك الحقبة يُدعى محمد فكيني وكان يعارض بشدة الاحتلال الإيطالي. ويقول ديل بوكا إنه كان محظوظاً عندما تمكن من الإطلاع على مذكرات محمد فكيني وهو مثقف ليبي عمل ولسنوات كمسؤول عثماني وزعيم لقبيلة الرجبان والذي قام في عام 1911 بتسليح الآلاف من المجاهدين للدفاع عن أرضهم ضد الغزاة. ويذكر هذا المؤرخ أن أكثر من أربعة ألاف ليبي قُتلوا خلال خمسة أيام ومن نجا من المشانق والإعدام بالرصاص نفي إلى الجزر الإيطالية النائية مثل تريميتي، بونزا، وأوستيكا. لقد صدرت هذه الأوامر مباشرة من قِبل رئيس الوزراء في تلك الفترة جوليتي، وأدت إلى نفي أكثر من 3400 ليبي إلى جزر الموت حيث عوملوا معاملة غير إنسانية، و من بقي منهم على قيد الحياة مات من جراء الأمراض. لقد استعمل جوليتي العنف والقمع ضد الليبيين، واستعمل أساليب نجدها فقط لدى النازيين. إنّ البرقيات التي بعث بها الجنرال كارلو كانيفا كانت رهيبة، تنص على الترحيل والإعدام بالرصاص. أما بادوليو فقد كان أسوأ وأعنف الحكام الإيطاليين لليبيا. عُين في عام 1928 من قِبل موسوليني. أمر بإنشاء 13 مركز اعتقال رهيب في منطقة برقة كانت بمثابة مقبرة لأكثر من أربعين ألف ليبي، والغريب في الأمر أن بادوليو لم يدفع ثمن هذه الجرائم ولم يُحاكم وإنما غُمر بأوسمة الشرف.
وطيلة نحو 30 عاما عاني الليبيون الويلات جراء قسوة المحتل الإيطالي، ولقد احتفظت لنا الصحف العثمانية بأخبار كثيرة عن الممارسات التي لا تمت إلى الإنسانية بصلة، كما احتفظت لنا بمئات الصور التي تبين مدى وحشية المحتل الإيطالي وكذلك مدى شجاعة الأهالي وصبرهم وإصرارهم على المقاومة رغم الإمكانيات البسيطة. وفي تعبير عن اللحمة النفسية والروحية بين المسلمين في العالم الإسلامي كله توافد على التراب الليبي عدد كبير من المقاومين من أماكن كثيرة نصرة لإخوانهم ورفضا للظلم والاستبداد.




Post a Comment

(مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)

ليبيا لليبيين يسقط الاحتلال التركي

مساحة إعلانية

اذكر الله

يمكنك مشاركة الموضوع على الواتساب من هاتفك المحمول فقط

اكتب كلمة البحث واضغط إنتري