فنجان قهوة
في مساء أحد الأيام، جلسَتْ وحدَها في مقهى ممتلئ بالنَّاس، كان يومًا مُتعِبًا وشاقًّا مليئًا بالضُّغوطات والمتاعب في العمل، وكان أمامها خياران؛ إمَّا أن تجلس على الطَّاولة البعيدة عن الجميع في الزَّاوية المُظلِمة حيث بإمكانها مراقبة الجميع دون ملاحظة الآخرين لها ـــ أو الطَّاولة المتوسِّطة حيث تكون هي مكشوفة أمامهم والجميع مكشوف أمامها.
اختارَت -وهي متردِّدة- الطَّاولة المتوسِّطة، وسألها النَّادل: هل أنتِ بانتظار أحد؟ نظرَت إليه بابتسامة بسيطة وعيناها للأسفل: لا فأنا وحدي اليوم! لم يستَجِب النَّادل بابتسامة مقابلة لابتسامتها، وبكلِّ انشغال سارَعَ بترتيب المائدة لتُناسب زبونًا واحدًا فقط. قاطعَتْه بعفويَّة وطلَبَت منه فنجان قهوة، وردَّ عليها: سادة، أليس كذلك؟ فابتسَمت وأجابَت: صحيح، هكذا أريدها. ثمَّ انسحَب النَّادل، وجلسَت هي وأفكارها معًا.
نظرَت حولها لتلمح على الطَّاولة المُقابِلَة شابَّين يبدوان في متوسِّط العشرين من العمر، يبدوان صديقَين، لكنَّ كلَيهما ينظر في هاتفه، ولا يتحدَّثان ولكنَّهما يبتسمان، وبين لحظة وأخرى ينظران إلى بعضهما البعض ويضحكان. ربَّما أنَّهما اختارا تبادل الرَّسائل النَّصِّيَّة بدلًا من الحديث، ربما هكذا حوَّلَت التِّكنولوجيا الحديثة العلاقات البشريَّة والمحادثات لتُصبح رسائل نصِّيَّة عبر تطبيقات إلكترونيَّة بحيث انتهى عصر الحديث وجهًا لوجه والتَّواصل النَّظري والتَّعبير الجسديِّ ـــ الأمر الَّذي يُضيف إلى الحديث إحساسًا ومعنىً حقيقيًّا للكلام والتَّواصل.
بعدها، انتقل نظرها إلى الطَّاولة المجاورة لها، كان يجلس عليها شابٌّ وفتاة يبدو عليهما التَّوتُّر والجدِّيَّة، كانت تعابير وجه الفتاة لا تُوحي بأنَّها سعيدة بالحوار معه، وكان يبدو من جلسة الشَّابِّ وكأنَّه يُريد المغادرة؛ فقدمه تهتَزُّ وكأنَّه ينتظر -بنفاذ صبر- الهروب. وبعيدًا عن هذه الطَّاولة كان هناك أربع سيدات في بداية الثَّلاثين، كُنَّ يبتَسِمن ويبدو أنَّهنَّ في انسجام تامٍّ في صداقتهم. رؤيتهم جعلَتها تستذكر صديقاتها، وتذكَّرَت كم كان من الممتع قضاء الوقت معًا، وآلَمها فقدان تواصلهنَّ مع مرور الأشهر بسبب الارتباطات، وسفر البعض الآخر، وانسحاب الأخرَيات!
ولكنَّ رائحة القهوة قاطَعَت أفكارَها فاستَرجَعَت قهوةَ الصَّباح الَّتي كانت والدتها تُحَضِّرها، وتذكَّرَت كيف كانت والدتُها شديدة الاهتمام بأن تلبِّيَ احتياجات الجميع، ولم تكن تُثقِّل كاهل أحد بأيِّ طلب خاصٍّ بها. تذكَّرَت كيف كانت دائمة الانشغال وكثيرة الصُّراخ، وكيف كانت شديدة الحَزم في مواقف وفي مواقف أخرى غير مبالية. كانت تبدو دائمًا سعيدة عند رؤية الوالد ولكن كانت رتابة حياتها تصل حدَّ الملل؛ فلم يكن هناك من جديد في التَّواصل أو الحديث حيث تمَّ الاكتفاء بعدم التَّجديد والتَّغيير. لذلك كان من الصَّعب الاستجابة للتَّغيُّرات في الحياة، وفي كلِّ مرحلة كان يحدث فيها الجديد كان يخيِّم الحزن والغضب والخوف بدلًا من التَّشويق والحماس للجديد. ربمَّا لذلك قرَّرَت هي الاستقلال عن العائلة -رغم حبِّها الكبير لهم ولوالدتها-فاتَّخَذَت منهجًا مختلِفًا فيما يتعلَّق بالكثير من المُسَلَّمات، فما يبدو بأنَّه أمر بديهيٌّ للجميع كان يبدو لها أنَّه أمر يستَحِقُّ التَّفكير، فبنظرها ربَّما هنالك طريقة أفضل من المُتعارَف عليها، حتَّى في أساليب الطَّبخ ابتَكَرَت شيئًا جديدًا؛ ليسَ ما اعتادَت عليه من قِبَل والدَتِها!
وفجأةً، أحضر النَّادل القهوة، ولم تستَطِع منع نفسها من الابتسام للنَّادِل وشكره؛ فهي دائمة الشُّكر والامتنان، وتُقَدِّر أبسط الأفعال من الآخرين. فهي تعتقد أنَّنا جميعًا نحتاج إلى الشُّكر، ولكنَّ النَّادَل وضع القهوة أمامَها على الطَّاولة وانسَحَبَ دون أيَّة استجابة. وما إن أخَذَت الرَّشفَة الأولى من القهوة إلَّا وابتدأ الشَّابَّان بتحريك أيديهم بلغة الإشارة. وحيث أنَّها كانت في صِغرها شديدةَ الفضول فقد شغَلَت نفسها بتعلُّم لغة الإشارة من خلال كُتَيِّب بسيط يتمُّ توزيعه مجَّانًا، مما مكَّنها أن تفهمَ أنَّهما أرادا المغادَرَة. وبصوتٍ مرتفع نادى النَّادل على أحدهما، وبدا من طريقة حديث أحدهما أنَّه يتحدَّث بطلاقة، بينما ابتدأ الشَّخص الآخر يتحدَّث معه بلغة الإشارة، وفهم منه أنَّه يريد المشاركة في الحِساب، لكنَّ صديقه ابتسم له، وبلغة الإشارة أعلَمَه -وكان يبدو مازِحًا- أنَّ الدَّفع سيكون عليه المرَّة القادمة.
وما إن وضعَت فنجانَ القهوة إلَّا وابتَسَمَت مع نفسها إذ أدرَكَت سببَ اكتفائهما بالابتسام لبعضهما البعض والضَّحك بين الحين والآخر؛ فعندما كانا يُرسلان الرَّسائل النَّصِّيَّة، كانا فعليًّا قد وجدا طريقة خاصَّة بهما للتَّواصل، ولم يكونا مشغولَين بالهواتف الذَّكِيَّة، وإنَّما استخدماها للتَّواصُل واستمتَعا بصُحبة بعضهما البعض!
وما إن أخذْتُ الرَّشفة الثَّانية إلَّا وصوت الموسيقى قد ارتفع، وإذ بالنَّادل يأتي بقالب حلوى كبير عليه الكثير من الأنوار، وتمَّ وضعه على الطَّاولة أمام الشَّابِّ والفتاة، وقد بدا على وجه الفتاة الفرَح والمفاجَأة، وكان الشَّابُّ فرِحًا جدًّا بفرحها. فأدرَكَت أنّ الشَّابَّ لم يكن متوتِّرًا من الحديث ويحاول الهروب، وإنَّما كان بانتظار المفاجأة بشوق!
ظلَّت جالسةً لساعاتٍ وحدَها تنظر إلى الأشخاص حولها، ومع أنَّها لا تعرفهم ولا تعرف أحاديثهم، إلَّا أنَّها كانت سعيدة بأنَّها بينهم. وما إن أخَذَتِ الرَّشفة الأخيرة من فنجان القهوة، إلَّا وهاتفها يرنُّ، وإذ بها والدتُها تطمَئِنُّ عليها. وبكلِّ رتابةٍ، أخبَرَتها بأنَّ كلَّ شيء على ما يُرام وهي في المكان المُعتاد، وأنَّها تُحِبُّها، إذ لم ترغَب بأن تُقلِقَها بأيِّ أمر جديد. أخبَرَتها بأنَّها تحتسي قهوةً لها نفس نَكهَةِ القهوة الَّتي اعتادَت على إِعدادِها لها صباحًا.
إرسال تعليق
(مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)